في كتابه الشعري (لئلا تموت بخيلاً)..
جميل مفرِّح: النصُّ الشعريُّ المتحرِّك
عبدالرحمن مراد
جميل مفرح عبدالله مفرح، شاعر مزجه الشعر في كأسه حتى صار هو في نفسه نصا شعريا متحركا، يكتب في كل أشكاله، فلا تخذله الإجادة في أي شكل يكتب فيه، يعتز بموهبته وبشاعريته إلى حد الرهان عليها، اشترك مؤخرا في مسابقة “دار عناوين بوكس” ويبدو أن الدار كان لها سياسة معينة غير الشعر، فلم تستطع أن تتجاوز تجربته فجاء في الترتيب الثالث مكرر، فبادر إلى نشر نصوص مجموعته على حسابه في الفيس بوك بمجرد الإعلان عن النتائج التي تقبلها بصدر رحب ركونا منه إلى شاعريته.
جميل مفرح من مواليد محافظة عمران، وهو من جيل التسعينات، جيل التمرد والحرية والانفتاح على الأنساق الكونية، جيل تقبل الصدمة الحضارية التي جاءته مع تباشير الوحدة اليمنية، ثم وقف متأملا في الأنساق الثقافية والحضارية والحداثية، فعاد إلى رشده، متجاوزا الصدمة بمزيد من التجربة والمراس، فتقبل كل الأشكال ولم يكن له موقف من الشكل الشعري الذي كان عند الأجيال السابقة، لذلك كان جدل المراحل يصنع نسقا جديدا، القيمة فيه للقدرة على الإضافة والتجديد والجودة في الرؤية وفي الفن، ولذلك كان جميل مفرح مبتكرا ومضيفا ومجددا وله أساليب فنية غاية في التجديد والإبداع، نشر بعضها، وآخر ينتظر النشر.
***
وكون المجال هنا محدود الأفق، لذلك سوف أقف عند بعض نصوص مجموعته التي شارك بها في المسابقة التي سلف ذكرها، وهي بعنوان “لئلا تموت بخيلا” وهي مجموعة سترى النور قريبا حسب علمي.. يقول في نص بعنوان “سراب من يقين”:
هِيَ ما أرادتْ أن تكونَ
وما استطاعَ الوردُ أن يحكي
وقال الياسمينْ..
هي قطرةُ الطلِّ التي نسيَ الشتاءُ
زجاجَ نافذتي لديها
منذُ عهدِ العاشقين المُترفينْ..
هي قُبلةٌ
سقطتْ على شفتَينِ
ضائعتَينِ في الظَّمأ المكينْ..
هي إسطوانةُ عاشقٍ
عزف الحياةَ بهجسِها
فغدا السَّرابُ روايةً محكيَّةً
والظِّلُّ
صار ملوَّناً بالأمنياتِ..
***
العنوان كعتبة أولى للنص يتحدث عن سراب من يقين، فالسراب مظهر مغر وخادع نشاهده نصف النهار مع اشتداد الحر فتنعكس فيه الأشياء، و”من” هنا للتبعيض، وكأن السراب يحمل بعضا من الحقيقة في حياتنا, وهذه الحقائق يفسرها المتن الذي يراها كينونة، وحكاية ورد، وقطرة طل، وقبلة..
هذه الحقائق التي حملها يقين السراب، تبدأ كتلة واحدة ثم ما يفتأ يفسرها، ويترك مسافة شاسعة للتوتر بين السراب واليقين حتى أصبح السراب رواية محكية والظل/ السراب يقينا ملونا بالأمنيات.
ولعل الصورة المبتكرة في قوله:
هي قطرةُ الطلِّ التي نسيَ الشتاءُ
زجاجَ نافذتي لديها
منذُ عهدِ العاشقين المُترفين.
تتماوج بين المشاكلة والمزواجة والتجريد وهي صورة غاية في الجودة الفنية والابتكار، قد يكون فيها قدر من السريالية لكنها سريالية تندرج تحت سراب اليقين الذي يكمن في الوجدان دون أن نشعر به، والشعرية الحقيقية هي التي تحاول أن تستنطق ما لا نستطيع تفسيره في نفوسنا حتى يصبح كيقين من سراب, ولعل الشاعر يطرح سؤالا وجوديا يهدده بالفناء ولذلك يقاومه كما في نص “كعادته” الذي يقول فيه:
مثل لافتةٍ
في رصيفِ انتظارٍ
تجمَّدتِ الذكرياتُ، تُحدِّقُ
في عابرٍ واحدٍ
مرَّ دون اصطحابِ ملامحهِ..
وكعادتهِ
مدَّ للظلِّ عكّازَهُ
وأشار إلى نقطةٍ لا مكانَ لها
في الفراغِ البعيدِ..
مضى نحوَها وتضاءلَ
حتى تلاشى بأحضانِها
ثم صارا معاً سالفاً من فناء.
* * *
غدا مقعداً كي يصيرَ رماداً..
تفرَّغَ عقدين من بأسِهِ
يحضنُ الغرباءَ…. ويركلهم..
سرق العابثون
سحائبهُ وحشائشَهُ
وبقايا الظلالِ
الذي كان يهطلُ من سقفِهِ..
فاستحالَ إلى صخرةٍ
تُوهمُ العابرين وتُحرقُهم.
* * *
لم يكُنْ برزخاً فاصلا
أو سياجاً أنيقاً، كما يدَّعي،
بين عشقين..
كان جداراً غليظاً دميماً
تجدَّرَ بالأحجياتِ وباللافتاتِ،
وباليأسِ
من أن يرى نفسَهُ
في مكانٍ يليقُ بأحلامِهِ..
جفَّ ماءُ شرايينِهِ
قبل عشرين فصلاً
تقوَّسَ حتى تلامسَ في بعضِهِ،
ثمَّ مالَ على جهةٍ
غيرِ معلومةٍ؛ يتربَّصُ
بالشطحاتِ التي في ثنايا العبورِ.
* * *
ارتدى ساعةً.. وقضى عمرَهُ
يتتبَّعُ زحفَ ثعابينِها،
يتظاهرُ بالدورانِ على جسمِها
عكسَ عصفِ الرِّياحِ
وبالانزلاقِ
إلى قمتَينِ افتراضيتَينِ
استعارهما
للتَّدحرُجِ نحوَ السماءِ…،
وفي لحظةٍ
لم تكُنْ في مساحاتِ إدراكِهِ؛
تتجمَّعُ من حولِهِ السمواتُ
على بُعدِ عقدينِ
من لهوِهِ..
يتظاهرُ بالارتهانِ
لغيبوبةٍ تلوَ غيبوبةٍ..
تتدلَّى إلى الذرواتِ خرافاتُهُ،
ويهيلُ على نفسهِ الانتظار.
***
هذا النص الذي أوردته هنا كاملا يستخدم اللغة الشعرية في قضية وجودية، فاللغة هنا تبتكر شكلا تعبيريا جديدا، حتى تستوعب هذا التحول الذي يحدث في محيطها بكل مستويات تراكيبها، فهي تخرق منطق العلاقات المألوفة بين الأشياء عن طريق مجازها واستعاراتها واشتغالها على القيم الفنية والجمالية في توضيح سؤال الوجود كما يتجلى في حقيقته وجوهره لا كما يبدو في مظهره العام:
كان جداراً غليظاً دميماً
تجدَّرَ بالأحجياتِ وباللافتاتِ،
وباليأسِ
من أن يرى نفسَهُ
في مكانٍ يليقُ بأحلامِهِ..
جفَّ ماءُ شرايينِهِ
قبل عشرين فصلاً
تقوَّسَ حتى تلامسَ في بعضِهِ،
ثمَّ مالَ على جهةٍ
غيرِ معلومةٍ؛ يتربَّصُ
بالشطحاتِ التي في ثنايا العبورِ.
***
إن موقف الشاعر من الوجود يعتمد في الغالب على ثقافته الخاصة، والتعدد في ألوان الصورة الشعرية يأتي انعكاسا للموقف من الوجود، فاعتماد الشاعر هنا على موقفه الفكري والثقافي من الوجود كان أكثر من اعتماده على تجاربه المباشرة، لأنه يدرك أن العالم لا يعطيه أنماطا واضحة للاستجابة، فهو يفكر في حدود ذاته، فالصورة في النص أصبحت وحدة وكيانا مستقلا وهي تعمل على توسيع البعد الدلالي من خلال إمكاناتها التعبيرية.. لاحظ قوله:
لم يكُنْ برزخاً فاصلا
أو سياجاً أنيقاً، كما يدَّعي،
بين عشقين..
كان جداراً غليظاً دميماً
تجدَّرَ بالأحجياتِ وباللافتاتِ،
وباليأسِ
من أن يرى نفسَهُ
في مكانٍ يليقُ بأحلامِهِ..
***
ويبدو أن سؤال الوجود عند جميل كان حاضرا بقوة في مجموعته “لئلا تموت بخيلا” فهو يبحث عن كينونة لائقة به في عالم غير مستقر، ويهدد وجوده، لذلك يذهب إلى الطفل القروي الكامن في أدغال روحه.. يقول في نص بعنوان “يحاصرُني القرويُّ الصَّغير”:
أتمرَّغُ في الكأسِ ما أستطيعُ
وأغسلُ فيه صدىً
لا يليقُ بمثلي
أُقلِّبُهُ في يديَّ وأسكبُ
في قلبِهِ جرعةً من حنيني إليهِ
ونخبين ممّا أؤمِّلُ تهشيمَهُ
-حينما نتعانقُ- من ذكرياتٍ..
أُصافحُهُ، وأُفتِّشُ في قاعِهِ
عن زمانٍ
يُشابهُني كي يكونَ نديمي
وأرسمُ في طيفِ جدرانهِ
المستديرِ وجوهاً
كتلك التي أخذتني إليهِ
على غفلةٍ من فتىً قرويٍّ
يُعنِّفُني كلَّما جئتُ
أشكو إليهِ القصيدةَ
والعشقَ والانهماكَ مع اللهِ..
يُوبِّخُني كلَّما قلتُ:
نَمْ في عيوني وَدَعْني أدافعْ
غبارَ القبيلةِ..
يجتاحُني مثلَ عاصفةٍ
كُلَّما حاولتْ لغةُ الشِّعرِ
تخليصَهُ من ذنوبي..
يُناثرُني كحطامِ كلامٍ بلا قائلٍ
ثم ينْظُمُني
قروياً جديداً بلا سالفٍ،
دونما ذكرياتٍ مع العشقِ والشِّعرِ
والطفراتِ التي تتراكمُ في داخلي
كُلَّما لاحَ لي
هاجسٌ في النجومِ البعيدةِ
أو شعَّ بي كأسُ ما أشتهي
من هشيمٍ وشيكٍ..
يُحاصرُني القرويُّ الصغيرُ
الذي أتملَّصُ من سوطِ عينيهِ
يُجبرُني كي أعودَ إلى زيِّهِ
المُتَجَعِّدِ،
يسألُ عن قلمي الخشبيِّ
المُعطَّرِ بالعودِ،
نظارتي التي كنتُ أخفيهِ
خلف تجاعيدِها..
ثم يسألُ عني…، إذا كنتُ أعرفُ
أين مضيتُ وأين تخفَّيتُ
عنِّي وعنهُ وعن طفلةٍ بضَّةٍ
ما تزالُ على وعدِها
في انتظاري..؟
أيُّها القرويُّ..
تعبتُ من الذكرياتِ المُملَّةِ،
منكَ ومنِّي ومن كلِّ شيءٍ
يُقيِّدُ ساقيَّ في جذعِكَ
المتورِّمِ بالأمنيات البريئةِ..
دعني، فإني أرى ما أُريدُ
وأكتبُ عن لحظتي ما أُريدُ
وأنسى نقاءكَ حين أُريدُ
و….،
دعني أكُنْ ما أُريدُ..
تراجعْ..
وقِفْ حيثُ أنتَ بعيداً
غلى الكأسُ.. نامَ النديمُ..
تباطأتِ اللحظاتُ
فماتت ببابِ انتظاري
تساقطَ من شجري طيِّبُ الشِّعرِ..
يا قرويُّ
وشاخَ على حافتي الاحتضار.
***
فالتاريخ الذي يمثله له ذلك الطفل الذي يحاصره هو في حد ذاته اللغة الدالة على الكينونة.. وجميل شاعر كثير الأسئلة ويرغب أن يعيد تأسيس التاريخ حتى لا يموت بخيلا من خلال نضاله في مضمار الوجود عبر اللغة:
دعني أكُنْ ما أُريدُ..
تراجعْ..
وقِفْ حيثُ أنتَ بعيداً
غلى الكأسُ.. نامَ النديمُ..
تباطأتِ اللحظاتُ
فماتت ببابِ انتظاري
****
لم تكن هذه الأسطر سوى انتصار للشعرية في أبهى تجلياتها، وذلك من خلال ثلاثة مستويات، وهي: مستوى الرؤيا، ومستوى بنية التعبير، ومستوى اللغة الشعرية بشكل شمولي، لذلك يقوم مفهوم الشعرية عند جميل على مجموعة من المفاهيم التي تحدد ملامح شعريته، وهي انفتاح النص، والغموض، والدهشة، والاختلاف، والرؤيا، والحركة، والزمن الشعري، وغيرها من المفاهيم الأخرى التي يذهب إليها النقد المعاصر.